الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
أيّ العلوم يصل بالإنسان إلى التكامل الروحي؟

أيّ العلوم يصل بالإنسان إلى التكامل الروحي؟

اتّضح من خلال المواضيع التي ذكرناها حول آثار وشروط كسب العلم أنّ الرؤية التي تتضمنها الروايات الشريفة والتي‏ ذكرت الآثار والنتائج والثمرات القيمة والطيبة الناتجة من طلب العلم لاتشمل جميع فروعه وأقسامه.

مع أنّ البعض يعتقد أنّ معنى العلم يشمل جميع أقسامه وفروعه المعروفة في عالمنا اليوم، ولكن نرى أنّ وجهة نظر الروايات الشريفة ليست في هذا المنحى، إذ ترى إنّ الكثير من الأشخاص الذين لهم اليد الطولى في المسائل العلمية هم‏ أصحاب الفضل وليسوا من أهل العلم؛ لأنّ من منظار مذهب أهل البيت‏ عليهم السلام ليس من الواجب تعلم كلّ مطلب يقع ضمن ‏دائرة العلم، وإنمّا هناك علم خاص.

وقد نقل في الروايات المشهورة عن الرسول الأكرم ‏صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ»، وقد قال ‏الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الرواية:

اَي عِلْمُ التَّقْوى وَالْيَقينِ.(177)

ومن هذا المنطلق فإنّ المقصود من الروايات الشريفة التي وردت في مدح طلب العلم والمعرفة تلك العلوم التي تصل ‏بالإنسان إلى عملية التكامل، وليس جميع العلوم المتعارفة وخاصة إذا كانت تلك العلوم التي يطلق عليها علم، ولكنّها في ‏الواقع ليست إلاّ مسائل خيالية وهمية.

فقد قال رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم:

اِنَّ مِنَ الْبَيانِ سِحْراً وَمِنَ الْعِلْمِ جَهْلاً وَمِنَ الْقَوْلِ عَيّاً.(178)

إنّ هناك الكثيرين تراهم يعجزون عن الكلام في مقام البيان بينما هناك عدّة لهم بيان قوي باستطاعتهم قلب الحقائق ‏والاُمور وجعلها رأساً على عقب، مع كونها تنم عن أفعال وأعمال باطلة تؤثر في السامعين وكأنّها سحر، وهنا سؤال يطرح ‏نفسه، وهو إذا قام مثل هؤلاء بتسمية الخرافات والأضاليل باسم النظريات العلمية وإنشائها في الأوساط والمحافل العلمية فهل ياترى من الواجب تعلمها وتطبيقها على أرض الواقع؟!

فعلى سبيل المثال فقد قام «بطلميوس» ذلك العالم اليوناني المعروف بطرح عقيدة خاطئه ظلت تتداول لمدة ثلاثة آلاف سنة، وأوقعت الكثير من العلماء في مطبات وأخطاء جسيمة، وكان من ضمنهم العالم الإسلامي الشهير أبو علي ‏سينا، فكانوا كلّهم يبدون تأييدهم المطلق لتلك النظرية والرأي حتى تطور العلم وجاء بنظرية تبطل رأي «بطلميوس».

وأمّا «داروين» الذي كان عاش في عصر قريب من عصرنا فقد طرح نظرية أسماها نظرية «تنازع البقاء» وقام بتلميع تلك‏ النظرية الخرافية واحاطها بهالة من العظمة، ممّا جعل البعض من العلماء يقبل بها، وبمرور الزمن ونتيجة الخدع ‏والأضاليل صدق بها جمع آخر، إلى أن بان خيانة هؤلاء العلماء وكشف القناع عن مكائدهم ونحن هنا نذكر تقريراً عن‏ذلك:

في السنوات الأولى من هذا القرن اكتشف مجموعة من العلماء المحترفين والهواة من جملتهم العالم «جالز داوسون» المحامي وبائع التحف في بريطانيا عدداً من الجماجم العظيمة وفكّاً سفليّاً لأحد الأشخاص تتعلق وكما يبدو «بالحلقة المفقودة» بين القرد والإنسان، وقد قام «منجستر كاردين» بإعلان هذا الخبر إلى الملأ، وذلك في شهر نوفبر من سنة 1912ميلادي.

وقد كان محل الإكتشاف في حفرة رملية تقع بالقرب من «بيلت داون كمن» والتي تقع في مدينة «ساسكن» وقد أطلقوا عليها اسم إنسان «بيلت داون» نسبة إليه.

وقد شكّك البعض من العلماء بأنّ الجمجمة والفك هما واحد وحينما تم الإعلان في سنّة 1917 بأنّ هناك إنساناً  «بيلت ‏داون» آخر قد تم اكتشافه قبل سنتين خمدت تلك الشكوك والظنون.

وبعد عدة عقود فقد انسان «بيلت داون» أهميته بالنسبة إلى ارتباطه بالحلقة المفقودة والّذي جعله العلماء الذين عملوا على الترويج له بمثابة قطعة من شجرة وحلقة التكامل التي مرّ بها الإنسان.

وفي نهاية المطاف جاء أحد علماء التشريح من جامعة اكسفورد في سنة 1953 ويدعى «ج. س. واينز» وقام بتحقيق‏ واسع أثبت من خلاله بطلان تلك القضية.

وقد أثارت حفيظة «واينز» حينما سمع بمجهولية المكان الذي تم فيه اكتشاف الإنسان الثاني «بيلت داون» وقد طلب‏ المساعدة في ذلك من كلّ من «سرويلفو دلكراس كلار» الأستاذ في جامعة اكسفورد و «كنت ب آكلي» الذي يعمل في‏ المتحف البريطاني، وقد قام المتحف البريطاني بنشر التقرير الذي أعدّه هؤلاء والنتائج التي خرجوا بها، وقد أثبت تلك‏ النتائج بشكل لايقبل معه الشك بأنّه تم إصلاح أسنان ذلك الفك وجعله بشكل يشبه إلى حدّ ما الإنسان!

وقد أثبتت التجارب التي اُجريت أنّ عظام الفك والجمجمة تختلفان وكلّ واحد منهما يعود إلى حقبة زمنية معينة.

وأثبتوا في الوقت ذاته أنّ اُولئك العلماء المنحرفين قد زوروا الحقائق وقاموا بتلفيق إنسان «بيلت داون» الثاني والحال‏ أنّه ليس له أيّ وجود، وإنّ العظام التي وجدت في المحل لحيوانات قد جمعها من قارات مختلفة، ولم يعلم لحد الآن أنّ‏هذا العمل الماكر والخدعة الكبيرة والتي انطلت على الكثيرين من صنع من؟ وأي شخص مسؤول عنها؟

ويمكن أن يحصل التزوير والتدليس في العلم حاله حال سائر المجالات الاُخرى ولكن في الوقت نفسه لايمكن‏ معرفة مقدار التزوير الحاصل فيه.(179)

ولعل هؤلاء العلماء وأمثالهم وما قاموا به من أعمال مختلقة بعيدة كلّ البعد عن العلم هي التي جعلت أئمة أهل ‏البيت‏ عليهم السلام يؤكدون على تجنب علماء السوء والضلالة وعدم الإصغاء إليهم.

وفي هذا الخصوص ينقل أميرالمؤمنين عليه السلام عن رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم قوله:

وَلكِنّي اَخافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنافِقِ الْجَنانِ عالِمِ اللِّسانِ يَقُولُ ما تَعْرِفُونَ وَيَفْعَلُ ما تُنْكِرُونَ.(180)

ويرى بعض العلماء في قرارة أنفسهم بأنّهم يقدمون الخدمات الجلية للمجتمع لكنهم لايشعرون بأنّ كلّ ما يقمون به‏ ينصب في مصلحة الاستعمار والأعداء، وأنّ القوى الإستعمارية تستفيد من علومهم وتوظفها لمصلحة أهدافهم ‏المشؤومة، وواحد من هؤلاء هو «انشتاين».

ولعلّ العذاب الروحي والكآبة التي عاشها مساعده «رابرت آبنهايمر» وندمه على أفعاله خير دليل على تلك الحقيقة، حيث بدأ عذابهما الروحي وحالة الكآبة عندما شعرا بأنّ اكتشافهما الذي كان الهدف منه التقليل من مشاكل الإنسانية أصبح ‏يستخدم من قبل الدول العظمى في إرعاب الشعوب وقتلهم والسيطرة على ثرواتهم ونهبها.

وقد قال العالم «آبنهايمر» وهو الصديق الحميم لـ«انشتاين» في المؤتمر الذي عقده بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل «انشتاين»: لقد قال لي «انشتاين» في الأيام الأخيرة من عمره وهو بائس وحزين جراء عملية التنافس التسليحي‏ والحروب: إذا كان عليّ أن أعيش مرة اُخرى في هذه الحياة لرجحت أن أكون عاملاً بسيطاً!(181)

ومن الواضح أنّ «انشتاين» وعلى الرغم من كلّ تلك الشهرة العلمية التي حظي بها فهو نادم في أيّامه الأخيرة على ما فعله‏ وأنّه يتأسّف كثيراً، لأنّه قام بوضع تجاربه وعلومه تحت اختيار القوى الإستعمارية وليس في خدمة البشرية.

ونحن هنا بدورنا نتساءل هل أنّ العلم والمعرفة التي تكون في خدمة أغراض الإستعمار وأهدافه ومصالحه الضيقة تكون سبباً في ارتقاء الروح وعروجها إلى مراتب ودرجات معنوية متعالية؟

وهل إنّ العالم الذي يقدم خدماته العلمية على طبق من الإخلاص إلى الدول والقوى العظمى شعر أم لم يشعر ويترك‏ خدمة بني جنسه يكون ممدوحاً في أحاديث وكلمات المعصومين ‏عليهم السلام؟

وقد ورد في الروايات الشريفة أنّ المدح للعالم لايقتصر على من صدق كلامه فقط، بل لابدّ أن يكون في مقام العمل‏ خادماً للدين أيضاً.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام:

يَعْني بِالْعُلَماءِ مَنْ صَدَّقَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ قَوْلَهُ فِعْلُهُ فَلَيْسَ بِعالِمٍ.(182)


177) بحار الأنوار: 32/2.  

178) بحار الأنوار: 162/77.

179) العلم والجهالة: 76.

180) نهج البلاغة: الخطبة رقم 27.  

181) علم النفس والضمير اللاواعي: 78.

182) بحار الأنوار: 344/70.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    زيارة : 2832
    اليوم : 22913
    الامس : 94441
    مجموع الکل للزائرین : 134289849
    مجموع الکل للزائرین : 92900664