الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
التعوّد على مخالفة النفس

التعوّد على مخالفة النفس

إنّ كلّ عمل وفعل يقوم به الإنسان لإضاء النفس ومطاوعتها وإن كان لايعتد به، يؤدي بالنتيجة إلى التقليل من القدرات‏ الروحية ! وقد تفقدها بعض مقوماتها الحيوية والفاعلية، بينما نجد أنّ مخالفة النفس يبعث على لملمة القوى في الفرد وإيجاد قوة خارقة ونورانية خاصة.

فهناك معادلة طردية بين مخالفة النفس والقوى الروحية، فكلما كانت المخالفة شديدة كلما ازدات القوى الروحية وتمتعت بقوة أكبر.

ومن الواضح فإنّ مخالفة النفس وعدم مطاوعتها تسبب العديد من المشاكل والصعاب، ولهذا نرى أنّ معظم الناس ‏يجرأون على القيام بها، وهناك قسم آخر يعمل على مجاهدة النفس، ولكنّه في نهاية المطاف بعد مدة قصيرة يستسلم لها نتيجة عدم ثباته واستقامته في ذلك.

وثمة مسألة يجب أن يلتفت إليها الإنسان الذي يرغب في إيجاد خطوات تختصر له طريق الوصول إلى الحالات ‏المعنوية وزيادة قدراتها وهي: أهمية مسألة الإعتياد على الأعمال والأفعال الصالحة والخيرة، إذ أنّ الصعوبات والعقبات‏التي تواجه الإنسان عندما يخالف هواه تذهب وتزول حين التعود على تلك الأعمال بشكل يصعب معه تركها.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الباقر عليه السلام:

عَوِّدُوا اَنْفُسَكُمُ اَلْخَيْرَ.(133)

باعتبار أنّ أساس فعل الخير والاعتياد عليه لن يردع الإنسان عن القيام بالأعمال الطالحة والمشينة فقط، وإنّما تجعله ‏محبّاً لأعمال الخير - مع ما له من مشاكل وصعاب - والتطبع عليها.

وقد أثبتت كلّ التجارب أنّ الإعتياد على شي‏ء يجعله السمة الغالبة في تصرفات الشخص، ويكون ضمن طباعه وعاداته‏ وأخلاقه اليومية شعر أم لم يشعر، بحيث يجد في تركه صعوبة وأمراً شاقّاً.

وعلى أساس ذلك فإنّ القيام بالأعمال الخيرة والصالحة والإعتياد عليها لن تسهل عملية مخالفة النفس وحدها فقط،وإنّما سوف تكون أعمال الخير من طباعه وبالتالي يكون تركها أمراً صعباً.

بطبيعة الحال فإنّ المجرم حينما يقدم ولأوّل مرة على ارتكاب جريمة السرقة أو الخيانة فإنّه يشعر في باطنه بالحياء والمعصية ويشعر في قلبه أنّه أقدم على تلويث نفسه وروحه، ولكن تتدريجياً وبالتكرار سوف يضمحل ذلك الشعور ويضحى ارتكاب الجريمة أمراً طبيعياً، والنتيجة لن يشعر بالحياء والمعصية بعد ذلك وإنّما سيكون معتاداً على القيام به ‏ولن يكون له خيار إلاّ فعله.

وكما أنّ الوقت وتكرار المعصية كفيل لإيجاد الإعتياد عند البعض ويصبح تركه أمراً في غاية الصعوبة، فإنّ القيام ‏بالعبادات الشاقة لأولياء اللَّه واُولئك الثلة التي تسعى في طريق التقرّب إلى أهل البيت‏ عليهم السلام أيضاً يصبح أمراً يسيراً، وليس‏ هذا فحسب، بل إنّه يكون طبعاً سارياً في وجودهم بشكل يجعلهم غير مستعدّين بحال من الأحوال لتركه، خاصّة بعد الآثار والثمار المهمّة التي يلمسونها نتيجة تلك العبادات. ففي هذه الحالة تجد عندهم التوافق مع النفس ومتطلباتها أمراً مستحيلاً، عكس الصورة تماماً مع القسم النقيض الذي يرى صعوبة في مخالفة النفس والتقاطع معها.

إنّ هناك فئة من الناس لاتحتاج إلى مرور زمان للتكيف والتأقلم مع عملية مخالفة النفس، فيحصل عندهم نوع من‏ التغير الفجائي العظيم فينقلب إلى شخص آخر، ومن هؤلاء هو «بوريا ولي» وأمّا قصة هذا الرجل فهي:

كان «بوريا» مصارعاً لايقوى أحد في المدينة على مجابهته ومنازلته، وكان يسافر من مدينة إلى اُخرى لمواجهة أبطالها،ولم يتمكن واحد من هؤلاء من هزيمته، بعدها عزم على السفر إلى العاصمة لمواجهة بطلها، ومن ثمّ الجلوس على كرسي‏ البطولة لبلده.

وكان صيته وشهرته قد جابت الأفق، ولهذا حينما تحرك صوب العاصمة جعل بطل العاصمة في قلق واضطراب‏ شديدين، وحينما شاهدت والدته آثار القلق والهم والحزن على ولدها سألته عن السبب من وراء ذلك فذكر لها أسباب‏ قلقه.

وكانت والدته إمرأة صالحة ومؤمنة، فبدأت بالدعاء والتوسل وأخذت تنذر كلّ يوم وتطعم الفقراء والمساكين في باب‏ المدينة لأجل فوز إبنها، وفي أحد الأيّام وصل «بوريا» إلى أبواب المدينة فشاهد إمرأة جالسة وفي يدها طبق من الحلوفجاء إليها وسألها عن قيمته، فقالت له المرأة: إنّه ليس للبيع وإنّما نذر نذرته لوجه اللَّه تعالى، فسألها ما هو سبب نذرك أيّتهاالمرأة؟ فقالت: إنّ ولدي هو بطل العاصمة وهو ينتظر قدوم أحد الأبطال من مدينة اُخرى لمنازلته ويخاف منه فإذا غلبه فإنّ‏ مالنا وسمعتنا سوف تذهب أدراج الرياح ولن يبقى شي‏ء نعيش عليه فشاهد بوريا تلك المرأة وهي تتوسّل وتتضرّع إلى‏البارئ عزّ وجلّ وتقرأ هذه الآية الشريفة «يا اَيُّها الَّذينَ امَنُوا كُونُوا اَنْصارَ اللَّهِ»(134).

وأخذ يتأمل ويقول في نفسه إذا تغلبت على ابنها فسوف أكون أنا البطل الأوحد للبلاد، وإمّا إذا غلبت نفسي فسوف‏ أكون بطل اللَّه، ثمّ قال في نفسه: لن أقطع رجاء هذه المرأة وكسب رضا البارئ عزّ وجلّ.

فجأة التفت إلى المرأة وقال لها: ان نذرك قد قبل، فدخل إلى المدينة فلمّا جاء اليوم الموعود للمبارزة دخل بطل‏ العاصمة وهو مخطوف الوجه ووقف أمام بوريا، فبدأت المواجهة وفي تلك اللحظات استسلم بوريا وخالف نفسه، وبعد لحظات فإذا ببوريا يسقط على الأرض ويعلن خسارته وفي تلك اللحظة انكشفت له الأسرار.(135)

من لي بردّ جماحي من غوايتها

كما يُردُّ جماحَ الخيلِ باللجُمِ

ومع أنّ ذلك الشاب قد هزم بوريا ولكن اللَّه سبحانه وتعالى جعله من أوليائه الصالحين والمقرّبين أيضاً.

فلا ترُم بالمعاصي كسرَ شهوتها

إنّ الطّعام يُقوي شهوةَ النّهمِ

والنّفسُ كالطّفلِ إن تُهملهُ شبَّ على

 حُبِّ الرّضاع وإن تفطمهُ ينفطمِ

فاصرف هواها وحاذر أن تولّيَهُ

إنّ الهوى ما تولّى يُصمِ أو يَصُمِ

وراعها وهي في الأعمال سائمة

وإن هي استحلتِ المرعى فلا تُسِمِ

كم حسّنت من لذّةٍ للمرء قاتلةٍ

من حيثُ لم يدرِ أنّ السّمّ في الدّسم

واخشَ الدّسائس من جوعٍ ومن شبعٍ

فرُبَّ مخمصةِ شرٌّ من التُّخمِ

واستفرغِ الدّمعَ من عينٍ قد امتلأت

من المحارمِ والزم حميةَ النّدمِ

وخالفِ النّفسَ والشّيطان واعصِهما

وإن هُما محّضاك النُّصحَ فاتّهِمِ

ولاتُطع منهما خصماً ولا حكماً

فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحكمِ

أستغفرُ اللَّه من قولٍ بلا عملٍ

 لقد نسبتُ به نسلاً لذي عُقُمِ

إنّ الإنسان يستطيع ومن خلال الإرادة القوية والتوكل على اللَّه تعالى، من مخالفة نفسه كما فعل بوريا، والسيطرة عليها في أصعب الظروف وأشدها.


133) بحار الأنوار: 244/46، الخرائج: 229.

134) الصفّ: 14.

135) راجع: العبقريّ الحسان: 106/2.

 

 

 

 

 

 

    زيارة : 2646
    اليوم : 73872
    الامس : 93963
    مجموع الکل للزائرین : 135913305
    مجموع الکل للزائرین : 93806499