تعلم القضاة القضاء من أميرالمؤمنين عليه السلام
من الحقائق الّتي أشار إليها التاريخ ، هو توبيخ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام قاضيه «شريح» بعد أن قام بإصدار حكم لصالح أطراف منكرة بعد أدائهم اليمين عن أنفسهم ، وعدم سعيه إلى إجراء أيّ تحقيق وتفحّص في القضيّة هذه ، فقال عليه السلام :
يا شريح ؛ هيهات ! هكذا تحكم في مثل هذا ؟! (5)
وقام المرحوم العلاّمة المجلسي بنقل هذه الرّواية في كتابه «بحار الأنوار» في المجلّد الرابع عشر ، ونقلها في الجزء الأربعين باختلاف قليل أيضاً وهي :
إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام دخل ذات يوم المسجد ، فوجد شابّاً يبكي وحوله قوم . فسأل أميرالمؤمنين عليه السلام عنه ، فقال : إنّ شريحاً قضى عليّ قضيّة لم ينصفني فيها .
فقال : وما شأنك ؟
قال : إنّ هؤلاء النّفر - وأومأ إلى نفر حضور - أخرجوا أبي معهم في سفر فرجعوا ولم يرجع أبي ، فسألتهم عنه ، فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله الّذي استصحبه . فقالوا : ما نعرف له مالاً ، فاستحلفهم شريح وتقدّم إليّ بترك التّعرّض لهم .
فقال أميرالمؤمنينعليه السلام لقنبر : أجمع القوم ، وادع لي شرطة الخميس(6) .
ثمّ جلس ودعا النفر للحديث معهم ، ثمّ سأله عمّا قال ، فأعاد الدّعوى وجعل يبكي ويقول : أنا واللَّه أتّهمهم على أبي يا أميرالمؤمنين ، فإنّهم إحتالوا عليه حتّى أخرجوه معهم ، وطمعوا في ماله .
فسأل أميرالمؤمنين عليه السلام القوم ، فقالوا كما قالوا للشريح : مات الرّجل ولانعرف له مالاً .
فنظر أميرالمؤمنين عليه السلام في وجوههم ، ثمّ قال : ماذا تظنّون ؟! أتظنّون أنّي لا أعلم ما صنعتم بأب هذا الفتى ؟ إن كان هكذا فإنّي لقليل العلم .
ثمّ أمر بهم أن يفرّقوا في المسجد ، وأقيم كلّ رجل منهم إلى جانب إسطوانة من إسطوانات المسجد ، ثمّ دعا عبيداللَّه بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له : إجلس ، ثمّ دعا واحداً منهم . فقال له : أخبرني ولاترفع صوتك : في أيّ يوم خرجتم من منازلكم و أبو هذا الغلام معكم ؟
فقال : في يوم كذا وكذا .
فقال لعبيداللَّه بن أبي رافع : اُكتب .
ثمّ قال له : في أيّ شهر ؟ قال : في شهر كذا .
قال : اُكتب . ثمّ قال : في أيّ سنة ؟
قال : في سنة كذا . فكتب عبيداللَّه بن أبي رافع ذلك .
قال : في أيّ مرض مات ؟ قال : بمرض كذا .
قال : في أيّ منزل مات ؟ قال : في موضع كذا .
قال : من غسّله وكفّنه ؟ قال : فلان .
قال : فبمَ كفّنتموه ؟ قال : بكذا .
قال : فمن صلّى عليه ؟ قال : فلان .
قال : فمن أدخله إلى القبر ؟
قال : فلان ، و عبيداللَّه بن أبي رافع يكتب ذلك كلّه .
فلمّا انتهى إقراره إلى دفنه ، كبّر أميرالمؤمنين عليه السلام تكبيرة سمعها أهل المسجد . ثمّ أمر بالرجل فردّ إلى مكانه ودعا بآخر من القوم ، فأجلسه بالقرب منه ، ثمّ سأله عمّا سأل الأوّل عنه ، فأجاب بما خالف الأوّل في كلامه كلّه ، وعبيداللَّه بن أبي رافع يكتب ذلك ، فلمّا فرغ من سؤاله كبّر تكبيرة سمعها أهل المسجد .
ثمّ أمر بالرّجلين جميعاً أن يخرجا من المسجد إلى السّجن فيوقف بهما على بابه .
ثمّ دعا بالثّالث فسأله عمّا سأل الرّجلين ، فحكى خلاف ما قالا ، وأثبت ذلك عنه ، ثمّ كبّر وأمر بإخراجه نحو صاحبيه ، ودعا برابع القوم ، فاضطرب قوله وتلجلج ، فوعّظه وخوّفه ، فاعترف أنّه وأصحابه قتلوا الرّجل وأخذوا ماله وأنّهم دفنوه في موضع كذا وكذا بالقرب من الكوفة .
أمر أميرالمؤمنين عليه السلام به إلى السّجن ، واستدعى واحداً من القوم وقال له : زعمت أنّ الرّجل مات حتف أنفه وقد قتل ، أصدّقني عن حالك ؟ وإلاّ نكلت بك ، فقد وضح الحقّ في قصّتكم .
فاعترف من قتل الرّجل بما اعترف به صاحبه ، ثمّ دعا الباقين فاعترفوا عنده بالقتل ، وأظهروا النّدامة ، واتّفقت كلمتهم على قتل الرّجل وأخذ ماله .
فأمر عليه السلام من مضى معهم إلى موضع المال الّذي دفنوه ، فاستخرجوه منه وسلّموه إلى الغلام ابن الرّجل المقتول ، ثمّ قال له : ما الّذي تريد قد عرفت ما صنع القوم بأبيك ؟
قال : اُريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي اللَّه عزّ وجلّ ، وقد عفوت عن دمائهم في الدّنيا .
فدرأ أميرالمؤمنين عليه السلام حدّ القتل عنهم ، وأنهكهم عقوبة .
فقال شريح : يا أميرالمؤمنين ؛ كيف هذا الحكم ؟
فقال له :
إنّ داود عليه السلام مرّ بغلمان يلعبون وينادون بواحد منهم ب«مات الدّين» .
قال : والغلام يجيبهم . فدنا داود عليه السلام منهم فقال له : يا غلام ؛ ما إسمك ؟
فقال : إسمي «مات الدّين» .
قال له داود : من سمّاك بهذا الإسم ؟
قال : اُمّي .
فقال داود : أين اُمّك ؟
قال : في منزلها .
قال داود : إنطلق بنا إلى اُمّك . فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها ، فخرجت فقال لها : يا أمة اللَّه ؛ ما اسم إبنك هذا ؟
قالت : إسمه «مات الدّين» .
قال لها داود عليه السلام : ومن سمّاه بهذا الإسم ؟
قالت : أبوه .
قال لها : وما كان سبب ذلك ؟
قالت : أنّه خرج في سفر له مع قوم وأنا حامل بهذا الغلام ، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي ، فسألتهم عنه ، فقالوا : مات . فسألتهم عن ماله ، فقالوا : ما ترك مالاً . فقلت : ما أوصاكم بوصيّة ؟ قالوا : نعم ؛ يزعم أنّك حُبلى ، فإن ولدت جارية أو غلاماً فسمّيه «مات الدّين» ، فسمّيته كما وصّى ولم أحبّ خلافه .
فقال لها داود عليه السلام : فهل تعرفين القوم ؟
قالت : نعم .
قال : إنطلقي مع هؤلاء يعنى قوماً بين يديه ، فاستخرجيهم من منازلهم . فلمّا حضروا حكم فيهم بهذه الحكومة ، فثبت عليهم الدّم واستخرج منهم المال ، ثمّ قال لها : يا أمة اللَّه ؛ سمّي إبنك هذا بـ «عاش الدّي» .(7)
نستفيد من الرّواية : أنّ إعتماد «شريح» على يمين المنكرين كان خطأً ، وأدّى إلى إصدار حكم غير صحيح ، وضياع الحقّ عن أهله .
5) بحار الأنوار : 11/14 .
6) «خميس» تأتي بمعنى الحرب ، و«شرطة الخميس» يقال إلى أشخاص معيّنين ، والأصبغ بن نباتة كان من هؤلاء . وسأل منه : لماذا يقال لكم «شرطة الخميس»؟ فقال : لقد شرط علينا أميرالمؤمنين عليه السلام أن نقاتل في مقدّمة الجيش ووعدنا بالفتح والنصر . (بحار الأنوار : 11/14)
7) بحار الأنوار : 259/40 .
بازديد امروز : 60622
بازديد ديروز : 221942
بازديد کل : 123201007
|