الرابعة:
موعظة بليغة للإمام الصادق عليه السلام في تحصيل طريق العبوديّة
قال العلّامة المجلسي رحمه الله في البحار: وجدت بخطّ شيخنا البهائي قدس سره ما هذا لفظه: قال الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي: نقلت من خطّ الشيخ أحمد الفراهاني رحمه الله ، عن عنوان البصري - وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة- قال:
كنت اختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه السلام المدينة اختلفت إليه، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك.
فقال لي يوماً: إنّي رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار، فلاتشغلني عن وردي، وخذ عن مالك، واختلف إليه كما كنت تختلف إليه.
فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده وقلت في نفسي: لو تفرّس فيّ خيراً لما زجرني عن الإختلاف إليه والأخذ عنه، فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلّمت عليه، ثمّ رجعت منالغد إلى الروضة وصلّيت فيها ركعتين وقلت:أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليّ قلب جعفر عليه السلام وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم.
ورجعت إلى داري مغتمّاً ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما اُشرب قلبي من حبّ جعفر عليه السلام، فما خرجت من داري إلّا إلى الصلاة المكتوبة حتّى عيل صبري(429)، فلمّا ضاق صدري تنعّلت وتردّيت وقصدت جعفراً عليه السلام وكان بعد ماصلّيت العصر.
فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال: ]ما[ حاجتك؟
فقلت: السلام على الشريف.
فقال: هو قائم في مصلّاه.
فجلست بحذاء بابه(430) فما لبثت إلّا يسيراً إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله ، فدخلت وسلّمت عليه فردّ السلام، وقال: اجلس غفر الله لك.
فجلست فأطرق مليّاً، ثمّ رفع رأسه وقال: أبومن؟ قلت: أبوعبد الله . قال: ثبّت الله كنيتك ووفّقك، يا أباعبد الله ما مسألتك؟ فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته و التسليم غيرهذا الدعاء لكان كثيراً.
ثمّ رفع رأسه ثمّ قال: ما مسألتك؟ فقلت:سألت الله أن يعطف قلبك عليَّ ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته.
فقال: يا أباعبد الله ، ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلاً في نفسك حقيقة العبوديّة واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك.
قلت: يا شريف، فقال: قل: يا أباعبد الله ، قلت:يا أباعبد الله ما حقيقة العبوديّة؟
قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله(431) الله ملكاً، لأنّ العبيد لايكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به،ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه.
فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه، لايتفرّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس.
فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولايطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولايدع أيّامه باطلاً، فهذا أوّل درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لايُريدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ»(432).
قلت: يا أباعبد الله ، أوصني. قال: اُوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، و الله أسأل أن يوفّقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة(433) النفس، وثلاثة منها في الحلم،وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها.
قال عنوان: ففرّغت قلبي له.
فقال: أمّا اللواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل ما لاتشتهيه، فإنّه يورث الحماقة والبله، ولاتأكل إلّا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله ،واذكر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ما ملأ آدمي وعاء اًشرّاً من بطنه، فإن كان ولابدّ فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.
وأمّا اللواتي في الحلم: فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإنكنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك،ومن وعدك بالخناء(434) فعده بالنصيحة والرعاء.
وأمّا اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ماجهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً(435) وتجربة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالإحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً واهرب من الفتيا(436) هربك منالأسد، ولاتجعل رقبتك للناس جسراً.
قم عنّي يا أباعبد الله ، فقد نصحت لك ولاتفسد عليّ وردي، فإنّي إمرءٌ ضنين(437)بنفسي، والسلام ]على من اتّبع الهدى[.(438)
---------------------------------------------
429) عيل صبري: رفع.
430) حذاء الشيء: ما يحاذيه.
431) خوّله الشيء: أعطاه إيّاه متفضّلاً.
432) القصص: 83 .
433) الرياضة: تهذيب الأخلاق النفسيّة.
434) الخناء: الفحش في الكلام.
435) لاتسأل تعنّتاً: لاتسأل لغير الوجه الّذي ينبغي طلب العلم له كالمغالبة والمجادلة.
436) الفتيا - بالياء وضمّ الفاء - والفتوى: ما أفتى به الفقيه.
437) الضنين: البخيل الشحيح، الشديد البخل.
438) البحار: 224/1 ح 17.
اج جا مهمان : 150224
ڪالھ جا مهمان : 297409
ڪل مهمان : 121463867
|