ومنها: سألني بعض الخطباء من أهل الأدب عن أسرار مهاجرة سيّد المجاهدين والشهداء عليه السلام بأهاليه إلى الطفّ وتضحيته برضيعه مع علمه بأنّه يقتل؟
فأجبت بأنّ كلّ قانون له مقام وإحترام يجب على أهله تقديسه وإتّباعه وإحتفاظه، والناستقرّبهم في ذلك على مراتب ثلاث: أعلاها منأفدى نفسه لحفظ هذا الأصل الشريف، وأدناها من لم يبال به، وبينهما متوسّطات، ولأجل ذلك أنّ الشعب والحكومات العالميّة يقدرون أهل الخدمة لذلك على مراتب خدمته.
هذا في قانون دنيوي أصل محفوظ وممّالاينكر من أحد، فكيف إذا كان القانون من الله جلّ وعلا كالقرآن المجيد والحافظ له كسيّدالمجاهدين الأبرار الّذي هاجر بأهاليه إلى الطفّ حيث بيّن بعمله المقدّس عظمة الدين والقانون وبطلان غير المستحقّين والمستأهلين؟
وصارت نهضته المقدّسة علّة محدثة للدين، وكأنّه أحياه بعد موته واندراسه بتضحية نفسه الكريمة العزيزة ومهجة (105) أعزّة أهاليه وأصحابه.
ولمّا كانت هذه النهضة الشريفة الوحيدة مشرفة لإنكار المرتابين المتغرضين - كسبيل إنكار بعض إمرة سيّد الموحّدين أميرالمؤمنين صلوات الله عليه يوم الغدير مع ما لها من الإشتهار بمرئى ومسمع آلاف من الرجال والنساء - فاحتاجت تلك العلّة إلى ضميمة علّة اُخرى مبقية لإحتفاظ هذه العلّة والنهضة الفريدة علىسبيل الدوام والإستمرار، ولا تكاد تصان وتحفظتلك الخدمة العزيزة والعلّة المحدثة إلّا بقيام المحبّين بالعزاءات والقراءات بإقامة ذكراهم بجميع أنحائها، وهي الحقيقة العلّة المبقية لهذه النهضة الشريفة والمكملة لها.
فأصبح قوام الدين حينئذ بنهضتين:
الاُولى: نهضته المقدّسة الوحيدة الفريدة القائمة بنفسه العزيزة وعيالاته وأطفاله وأصحابه.
الثانية: تلك النهضات القادسة الطاهرة القائمة بالعزاءات والقراءات المذكورات المثبتات لهذه النهضة.
ولأجل ذلك يجب على كلّ أهل الدين، بل على كلّ بشر، القيام بتلك الاُمور الّتي هي المظاهر الإلهيّة وحياة أمر الأئمّة عليهم السلام، وكون هذاالقيام إشارة إلى الأسف والأسى عمّا فاتهم من الجهاد بين يديه وتشييداً لدعوتهم وتأييداً لأحقّيتهم بالأمر ممّن دفعهم عن المقام المجعول لهم من الله سبحانه وتعالى، وتشكّراً لحقوقهم وصلة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأولاده الطيّبين الطاهرين وسروراً لهم عليهم السلام.
ولذا كانوا عليهم السلام يحثّون الناس على القيام بمثلهذه الاُمور بقولهم عليهم السلام:
«فإنّ في اجتماعكم ومذاكراتكم إحياء أمرنا،وخير الناس بعدنا(106) من ذاكر بأمرنا ودعا(107) إلىذكرنا».(108)
وفي خبر آخر: «هل العيش إلّا هذا».
وفي آخر: «شيعتنا منّا ومضافون إلينا فلهم معنا قرابة خاصّة، رضوا بنا أئمّة، ورضينا بهم شيعة، يحزنهم حزننا، ويسرّهم سرورنا، ونحن نطّلع على أحوالهم، ونتألّم لتألّمهم».
وعن أبي محمّد الحسن عليه السلام: «من أحبّنا بقلبه،وأخدمنا بيده ولسانه فهو معنا في الغرفة الّتي نحن فيها».(109)
فالنصرة لهم لاتختصّ بمورد خاصّ، بل كلّ ما فيه تثبيت دعوتهم ولفت الأنظار إلى ما منحهم الباري جلّ وعلا من الخلافة الكبرى، فإنّه نصرة لهم.
ولايستشكل بها بإستلزام بعض أقسامها بنحو الله و، لكونها في مقام الإبكاء والحزن وهوخارج عن موضوعه تخصّصاً.
وأمّا علمه عليه السلام بأنّه سيقتل.
فنقول: إنّ التكاليف الشرعيّة بالنسبة إليه عليه السلام مقصورة على ما يعلمه بالعلوم الظاهريّة دون العلوم الغيبيّة، فالحسين صلوات الله عليه لمّا ظهر له بذل الطاعة من أهل الكوفة وكاتبه وجوههم مرّة بعد اُخرى طائعين غير مكرهين ومبتدئين غير مجيبين لم يسعه في الظاهر إلّا الخروج والقيام في إعلاء دين الله وكلمته وإبقائه.
فيجب شرعاً وعقلاً شكر هذا الإحسان مستمرّاً بإقامة ذكرى إمامنا المظلوم الشهيد بجميع أنحائها كي نشاركه ونقدّسه ممتثلاً بقول الله سبحانه وتعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ»(110).
مضافاً إلى أنّها من أعظم شعار الدين وأجلاها «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(111) ولاتنافي ما ذكرنا الرواية المرويّة في الكافي بأنّ أفعالهم عليهم السلام كلّها معهودة من الله تعالى(112) بداهة أنّ عهد الحكيم المطلق عين الحكمة ومطلقها.
----------------------------------------
105) المُهجَة: دم القلب.
106) في البحار: من بعدنا.
107) في البحار (ج 74): عاد.
108) بشارة المصطفى: 110، عنه البحار: 354/74 ح 31و 200/1 ح8 عن أمالي المفيد.
109) البحار: 101/27 ح 64 مع إختلاف يسير.
110) الرحمن: 61.
111) الحجّ: 32.
112) الكافي: 280/1 ح2.
بازديد امروز : 146996
بازديد ديروز : 297409
بازديد کل : 121460642
|