الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
الإستخارات

الإستخارات

    نذكر في هذا الباب ما تقرّ به عينك ، وتسكن به فؤادك من روائح الغيب(1) لتجد مفتاح الفرج(2) ، وتصل إلى مقام الإنارة(3) ، وتقدر على فتح الأبواب(4) .

    هذا ما قد منّ اللَّه علينا لإرشاد المستبصر(5) ، فخذ ما نروي لك عن وليّ عالم الماديّات والمعنويّات في الإستخارات(6) ، ل-هداية المسترشدين(7) ؛ فإن كنت من الشائقين فتلك مفاتح الغيب(8) في يدك ، فخذ واغتنم ، وذلك مشروط بأن تعلم شرايط الإستخارة(9) ، حتّى تعرف منهاج المستخير(10) ، وتستفيد من مفتاح الغيب ومصباح الوحي(11) .

    ولمّا كانت الإستخارة من أنواع الدعاء وقد شرحنا آدابه في مقدّمة الكتاب فراجعها حتّى تكون على بصيرة من الأمر ، وللتأكيد نقول :

    إنّ من أهمّ ما يلزم على الداعي والمستخير رعايته ، هو تطهير القلب عن ما هو يوجب غضب الرحمن وتحصيل اليقين والإطمينان ؛ لأنّ هذا هو الأساس في الدعاء والتوسّل ، فإذا كانت الإستخارة مع آدابها وشرائطها لايقبض المستخير القبضة باختياره ، بل القبض يكون باختيار اللَّه الّذي استخاره .

    فعلى هذا ، الإستخارة إذا كانت صحيحة فاختيار القبضة في السبحة ، أو الرقعة في الرقاع ، أو الصفحة من الكتاب ، يكون بإرادة اللَّه تعالى ولا اختيار للمستخير ؛ و إن لم تكن مع آدابها وشرائطها فلا اعتبار لها .

    فلابدّ للمستخير من تطهير القلب وتحصيل اليقين ليقدر على التوجّه إلى اللَّه تعالى ، والمستخير إن لم يكن له اعتقاد ويقين باستخارته فلا اعتبار لها .

    قال السيّد الأجلّ في أحوال بعض الناس : قوم من عوام العباد ، ما في قلوبهم يقين ، ولا قوّة معرفة ، ولا وثوق بسلطان المعاد ، لأنّهم ما تسكن نفوسهم إلّا إلى مشاورة من يشاهدونه ويأنسون به ويعرفونه من الأنام ، واللَّه جلّ جلاله ما تصحّ عليه المشاهدة ، وليس لهم اُنس قوّة المعرفة له ولا لذّة الوثوق به ، ولايعرفون للمشاورة له فائدة عندهم من قصور الأفهام .

 ومَن يكُ ذا فم مرّ مريض

يجد مرّاً به الماء الزلالا

    وهؤلاء من قبيل الّذين ذكرهم مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في بعض خطبه الرائقة :

 همجٌ رعاع ، لايعبأ اللَّه بهم ، أتباع كلّ ناعق وناعقة .(12)

    قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار :

    الفتح : قال قدس سره : إعلم أنّي ما وجدت حديثاً صريحاً أنّ الإنسان يستخير لسواه ، لكن وجدت أحاديث كثيرة تتضمّن الحثّ على قضاء حوائج الإخوان من اللَّه جلّ جلاله بالدّعوات ، وساير التوسّلات ، حتّى رأيت في الأخبار من فوايد الدّعاء للإخوان ما لا أحتاج إلى ذكره الآن ، لظهوره بين الأعيان ، والإستخارات على ساير الرّوايات هي من جملة الحاجات ، ومن جملة الدّعوات ، واستخارة الإنسان عن غيره داخلة في‏عموم الأخبار الواردة بما ذكرناه ، لأنّ الإنسان إذا كلّفه غيره من الأخوان الإستخارة في بعض الحاجات ، فقد صارت الحاجة للّذي يباشر الإستخارات فيستخير لنفسه ، وللّذي يكلّفه الإستخارة :

    أمّا استخارته لنفسه بأنّه هل المصلحة للّذي يباشر الإستخارة في القول لمن يكلّفه الإستخارة ، وهل المصلحة للّذي يكلّفه الإستخارة في الفعل أو الترك ، وهذا ممّا يدخل تحت عموم الرّوايات بالإستخارات ، وبقضاء الحاجات ، وما يتوقّف هذا على شي‏ء يختصّ به في الروايات .

بيان : ما ذكره السيّد من جواز الإستخارة للغير لايخلو من قوّة للعمومات لاسيّما إذا قصد النائب لنفسه أن يقول للمستخير أفعل أم لا ؟ كما أومأ إليه السيّد ، وهو حيلة لدخولها تحت الأخبار الخاصّة ، لكنّ الأولى والأحوط أن يستخير صاحب الحاجة لنفسه ، لأنّا لم نر خبراً ورد فيه التوكيل في ذلك ، ولو كان ذلك جائزاً أو راجحاً لكان الأصحاب يلتمسون من الأئمّة عليهم السلام ذلك ، ولو كان ذلك لكان منقولاً لا أقلّ في رواية ، مع أنّ المضطرّ أولى بالإجابة ودعاؤه أقرب إلى الخلوص عن نيّة .(13)

    قال العلاّمة المجلسي رحمه الله أيضاً في بحار الأنوار :

    أظنّ أنّه قد اتّضح لك ممّا قرع سمعك ومرّ عليه نظرك في الأبواب السّابقة أنّ الأصل في الإستخارة الّذي يدلّ عليه أكثر الأخبار المعتبرة ، هو أن لايكون الإنسان مستبدّاً برأيه ، معتمداً على نظره وعقله ، بل يتوسّل بربّه تعالى ويتوكّل عليه في جميع اُموره ، ويقرّ عنده بجهله بمصالحه ، ويفوّض جميع ذلك إليه ، ويطلب منه أن يأتي بما هو خير له في اُخراه واُولاه ، كما هو شأن العبد الجاهل العاجز مع مولاه العالم القادر ، فيدعو بأحد الوجوه المتقدّمة مع الصّلاة أو بدونها ، بل بما يخطر بباله من الدّعاء إن لم يحضره شي‏ء من ذلك ، للأخبار العامّة ؛ ثمّ يأخذ فيما يريد ثمّ يرضى بكلّ ما يترتّب على فعله من نفع أو ضرّ .

    وبعد ذلك الإستخارة من اللَّه سبحانه ثمّ العمل بما يقع في قلبه ويغلب على ظنّه أنّه أصلح له ، وبعده الإستخارة بالإستشارة بالمؤمنين ، وبعده الإستخارة بالرّقاع أو البنادق أو القرعة بالسّبحة والحصا أو التفؤّل بالقرآن الكريم .

    والظاهر جواز جميع ذلك كما اختاره أكثر أصحابنا ، وأوردوها في كتبهم الفقهيّة والدّعوات وغيرها ، وقد اطّلعت ههنا على بعضها ، وأنكر ابن إدريس الشقوق الأخيرة ، وقال إنّها من أضعف أخبار الآحاد ، وشواذّ الأخبار ، لأنّ رواتها فطحيّة ملعونون ، مثل زرعة وسماعة وغيرهما ، فلايلتفت إلى ما اختصّا بروايته ، ولايعرّج عليه ، قال : والمحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلاّ ما اخترناه ، ولايذكرون البنادق والرّقاع والقرعة إلاّ في كتب العبادات ؛ دون كتب الفقه وذكر أنّ الشيخين وابن البرّاج لم يذكروها في كتبهم الفقهيّة ، ووافقه المحقّق فقال : وأمّا الرقاع وما يتضمّن افعل ولاتفعل ، ففي حيّز الشذوذ ، فلا عبرة بهما .

    وأصل هذا الكلام من المفيد رحمة اللَّه عليه في المقنعة حيث أورد أوّلاً أخبار الإستخارة بالدّعاء والإستشارة وغيرهما ممّا ذكرنا أوّلاً ، ثمّ أورد إستخارة ذات الرّقاع وكيفيّتها ثمّ قال : قال الشيخ : وهذه الرّواية شاذّة ليست كالّذي تقدّم لكنّا أوردناها للرّخصة دون تحقيق العمل بها انتهى ؛ ولعلّه ممّا ألحقه أخيراً في الهامش فأدرجوه في المتن .

    وقال السيّد بن طاوس رحمه الله : عندي من المقنعة نسخة عتيقة جليلة كتبت في حياة المفيد رضى الله عنه ، وليست فيه هذه الزيادة ، ولعلّها قد كانت من كلام غير المفيد على حاشية المقنعة فنقلها بعض الناسخين فصارت في الأصل ، ثمّ أوّلها على تقدير كونها من الشيخ بتأويلات كثيرة ، وأجاب عن كلام المحقّق وابن إدريس رحمه الله بوجوه شتّى لم نتعرّض لها لقلّة الجدوى .

    وقال الشهيد رفع اللَّه درجته في الذكرى : وإنكار ابن إدريس الإستخارة بالرّقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب ، وعدم رادّ لها سواه ، ومن أخذ مأخذه ، كالشيخ نجم الدّين .

    قال : وكيف تكون شاذّة وقد دوّنها المحدّثون في كتبهم ، والمصنّفون في مصنّفاتهم ، وقد صنّف السيّد العالم العابد صاحب الكرامات الظّاهرة والمآثر الباهرة ، رضي الدين أبوالحسن عليّ بن طاوس الحسني رحمه الله كتاباً ضخماً في الإستخارات واعتمد فيه على رواية الرّقاع ، وذكر من آثارها عجائب وغرائب ، أراه اللَّه تعالى إيّاها ، وقال : إذا توالى الأمر في الرّقاع فهو خير محض ، وإن توالى النّهي فذلك الأمر شرّ محض ، وإن تفرّقت كان الخير والشرّ موزّعاً بحسب تفرّقها على أزمنة ذلك الأمر بحسب ترتّبها .(14)


1) روائح الغيب في رفع الترديد والريب ، تأليف : المولى عبدالنبيّ بن عبدالرزّاق رحمه الله .

2) مفتاح الفرج في الإستخارات ، تأليف : الأمير محمّد حسين الخاتون آبادي رحمه الله .

3) الإنارة عن معاني الإستخارة ، تأليف : الشيخ محمّد بن الفيض الكاشاني رحمه الله .

4) فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين ربّ الأرباب في الإستخارات ، تأليف : السيّد الأجلّ عليّ بن طاووس رحمه الله .

5) إرشاد المستبصر في الإستخارات ، تأليف : السيّد عبداللَّه شبّر رحمه الله .

6) الإستخارات إسم عدّة كتب لعدّة من العلماء ، منهم :

    الف) الشيخ أحمد بن صالح البحراني رحمه الله . ب) أحمد بن عبدالسلام البحراني رحمه الله .

    ج) الشيخ أبوالحسن سليمان الماحوزي البحراني رحمه الله . د) السيّد علي بن محمّد الحسيني الميبدي اليزدي رحمه الله .

    ه) الشيخ ميرزا أبي المعالي الكلباسي رحمه الله . و) السيّد ميرزا محمّد حسين الحسيني المرعشي الشهير بالشهرستاني رحمه الله .

7) هداية المسترشدين في الإستشارة والإستخارة ، تأليف : الحسن بن محمّد صالح النصيري الطوسي رحمه الله .  

8) مفاتح الغيب في الإستخارة ، تأليف : العلّامة المجلسي رحمه الله .

9) الإستخارة ، تأليف أبي النضر محمّد بن مسعود العيّاشي رحمه الله صاحب التفسير المشهور .

10) منهاج المستخير ، تأليف : الحاج الميرزا محمّد حسين الحسيني التبريزي رحمه الله .

11) مفتاح الغيب ومصباح الوحي ، تأليف : السيّد مهدي الغُريفي رحمه الله .

    ولمزيد الإطّلاع على الكتب المؤلّفة حول مسئلة الإستخارة ارجع إلى مقدّمة كتاب فتح الأبواب .

12) فتح الأبواب : 300 .  

13) بحار الأنوار : 285/91 .

14) بحار الأنوار : 287/91 .

 

 

    زيارة : 7493
    اليوم : 0
    الامس : 75667
    مجموع الکل للزائرین : 132602669
    مجموع الکل للزائرین : 91909112