الاُولى:

[ خطبة بلا ألف ]

في المناقب: روى الكلبي عن أبي صالح، وأبو جعفر بن بابويه ‏قدس سره: بإسناده عن الرضا عليه السلام ، عن آبائه ‏عليهم السلام أنّه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أنّ الألف أكثر دخولاً في الكلام، فارتجل‏  عليه السلام   الخطبة المونقة وهي:

   «حمدتُ من عظمت منّته، وسبغت(460) نعمته، وسبقت رحمته غضبه، وتمّت ‏كلمته، ونفذت مشيّته، وبلغت قضيّته، حمدته حمد مقرّ بربوبيّته ]متخضّع ‏لعبوديّته(461)] متنصّل(462) من خطيئته ]متفرّد بتوحيده(463)] مؤمّل منه مغفرة تنجيه، يوم ‏يشغل ]كلٌّ(464)] عن فصيلته(465) وبنيه.

   ونستعينه ونسترشده ونستهديه(466) ونؤمن به ونتوكّل عليه، وشهدت له شهود]عبد(467)] مخلص موقن، وفرَّدته تفريد مؤمن متيقّن، ووحّدته توحيد عبد مذعن(468) ليس له شريك في ملكه، ولم يكن له وليّ  في صنعه، جلّ عن مشير ووزير، وعن عون ومعين، ونصير ونظير.

   علم فستر وبطن فخبر، وملك فقهر، وعُصي فغفر، ]وعُبد فشكر(469)] وحكم‏ فعدل ]وتكرّم وتفضّل(470)] لم يزل ولن يزول، ليس كمثله شي‏ء، وهو ]قبل كلّ ‏شي‏ء،و(471)] بعد كلّ شي‏ء، ربٌّ متعزّز بعزّته، متمكّن بقوّته، متقدّس بعلوّه، متكبّر بسموّه.

   ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قويٌّ منيع، بصيرٌ سميع، رؤوف رحيم، عجز عن وصفه من يصفه(472) وضلّ عن نعته من يعرفه(473) قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه(474) ذو لطف خفيّ، وبطش(475) قويّ،ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنّة عريضة مونقة(476)، وعقوبته جحيم ‏ممدودة موبقة(477).

   وشهدت ببعث محمّد رسوله وعبده وصفيّه، ونبيّه ونجيّه(478) وحبيبه وخليله، بعثه في خير عصر وحين  فترة وكفر، رحمة لعبيده، ومنّة لمزيده، ختم به نبوّته، وشيَّد(479) به حجَّته فوعظ ونصح وبلغ وكدح(480)، رؤوف بكلّ مؤمن، رحيم ]سخيٌّ[ رضيٌّ وليٌّ زكيٌّ، عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم، من ربّ غفور رحيم، قريب مجيب.

   وصّيتكم معشر من حضرني بوصيّة ربّكم، وذكّرتكم بسنّة نبيّكم(481) فعليكم‏ برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري(482) دموعكم، وتقيّة تنجيكم قبل يوم يبليكم‏ ويذهلكم(483) يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخفّ وزن سيّئته، ولتكن‏مسألتكم وتملّقكم مسألة ذلّ وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة(484) ونزوع(485) وندم‏ ورجوع.

  وليغتنم كلّ مغتنم منكم صحّته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه(486) وسعته قبل ‏فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره ]قبل تكبّر وتهرّم وتسقم(487)] يملّه(488) طبيبه، ويعرض عنه حبيبه، وينقطع عمره، ويتغيّر عقله.

   ثمّ قيل: هو موعوك(489) وجسمه منهوك(490) ثمّ جُدَّ في نزع(491) شديد، وحضره كلّ ‏قريب وبعيد، فشخص بصره(492) وطمح  نظره(493) ورشح(494) جبينه، وعطف(495)عرينه(496) وسكن حنينه(497) وحزنته نفسه، وبكته عرسه(498) وحفر(499) رمسه(500) ويُتم‏ منه ولده، وتفرّق عنه عدده، وقُسم جمعه(501) وذهب بصره وسمعه، ومدّد وجُرّد وعُرّي وغُسّل ونُشّف(502).

   وسُجّي(503) وبُسط له وهُيّئ، ونُشر عليه كفنه، وشُدّ منه ذقنه(504) وقُمّص وعُمّم ‏ووُدّع وسُلّم وحُمّل فوق سرير، وصُلّي عليه بتكبير ]بغير سجود وتعفير(505)] ونقل ‏من دور مزخرفة، وقصور مشيّدة، وحجر ]منضّدة، وفرش(506)] منجّدة(507).

وجُعل في ضريح ملحود(508) وضيّق مرصود(509) بلبن منضود(510) مسقّف‏ بجلمود(511) وهيل عليه حفره(512) وحشى(513) عليه مدره، وتحقّق حضره(514) ونسي ‏خبره، ورجع عنه وليّه وصفيّه، ونديمه ونسيبه.

   وتبدّل به قرينه وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر(515) يسعى بجسمه(516) دود قبره، ويسيل صديده(517) من منخره، يسحق برمّته(518) لحمه(519) وينشف دمه، ويرمّ(520) عظمه، حتّى يوم حشره فنشره(521) من قبره حين ينفخ في صور، ويدعى‏ بحشر(522) ونشور، فثمَّ بُعثرت قبور(523) وحُصّلت سريرة صدور.

   وجي‏ء بكلّ نبيّ وصدّيق وشهيد، وتوحّد للفصل(524) قدير، بعبده خبير بصير فكم من زفرة تغنيه(525) ]وحسرة تنضيه(526)] في موقف مهول(527) ومشهد جليل بين‏ يدي ملك عظيم، بكلّ صغيرة وكبيرة عليم، فحينئذ يُلجمُه عرقه، ويحصره(528)قلقه.

   ]فعبرته[ غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة، وحجّته غير مقبولة، ]وبرزت‏صحيفته، وتبيّنت جريرته، و(529)] نظر فى سوء عمله، وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده بمسّه ]ويهدّده منكر ونكير،وكشف له حيث يصير(530)].

   فسلسل جيده، وغلّت يده، وسيق فسحب(531) وحده، فورد جهنّم بكرب ‏وشدّة(532) فظلَّ يعذّب في جحيم، ويسقى شربة من حميم، تشوي وجهه، وتسلخ‏ جلده، وتضربه زبنتية بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنّم، ويستصرخ فيلبث حقبة بندم.

   نعوذ بربّ قدير من شرّ كلّ مصير(533) ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة من‏قبله، فهو وليُّ مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زُحزح(534) عن تعذيب ربّه جُعل في‏ جنّته بقربه(535) وخُلّد في قصور مشيّدة، ومُلّك بحور عين وحفدة(536) وطيف عليه‏ بكؤوس(537) وسكن حظيرة قدس، وتقلّب في نعيم، وسُقي من تسنيم وشرب من‏ عين سلسبيل ومزج له بزنجبيل مختّم(538) بمسك وعبير(539) مستديم للملك(540)مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض مغدق(541) ليس يصدع من شربه،وليس ينزف ]لبّه[.

   هذه منزلة من خشي ربّه، وحذّر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد مشيئته(542) وسوّلت له نفسه معصيته(543)، فهو قول فصل(544) وحكم عدل وخير(545) قصص قصّ، ووعظ ]به[ نصّ، تنزيل من حكيم حميد (546) نزل به روح قدس مبين‏ على قلب نبيّ مهتد رشيد، صلّت عليه رسل سفرة مكرمون بررة.

   عذت بربّ عليم رحيم كريم من شرّ كلّ عدوّ لعين رجيم، فليتضرّع ‏متضرّعكم، وليبتهل مبتهلكم، وليستغفر كلّ مربوب منكم لي ولكم، حسبي ربّي ‏وحده.(547)

   البيان: فصيلة الرجل: رهطه الأدنون، و«كدح»: سعى سعياً فيه تعب.

   و«فرغته»: الواحدة من الفراغ، «سجّى» الميّت: بسط عليه ردائه.

   و«زبنيته» على وزن عقربة: واحد الزبانية، وهم عند العرب الشّرط، سمّي بعض‏ الملائكة به لدفعهم أهل النار إليها، وقيل: واحد الزبانية، زباني، قال بعضهم: زابن،وقيل: هو جمع لا واحد له، نحو: أبابيل وعباديد.

   و«تسنيم»: عين في الجنّة، سمّي بذلك لأنّه يجري من فوق الغرف والقصور.

   و«السلسبيل»: عين في الجنّة ليس ينزف ولايخمر كما يخمر شارب الخمر في‏ الدنيا.

 

---------------------------------------

460) سبغت: تمّت.                                                               

461) ليس في الأصل.

462) متنصّل: متبرّئ‏منها.

463) في البحار: معترف بتوحيده، مستعيذ من وعيده.

464) و467) من البحار.             

465) فصيلته: عشيرته.

466) نستهديه: نطلب منه الهداية والتوفيق.

468) مذعن: خاضع مقرّ.

471 - 469) من البحار.                

472) في البحار: وصفه.

473) في البحار: عرفه.  

474) يحبوه: يعطي عبده بلا مكافاة.

475) البَطْش: الأخذ بشدّة وعنف.

476) مونقة: حسنة، جميلة.

477) موبقة: مهلكة.

478) ليس في البحار، وفي شرح النهج: نجيبه.

479) شيّد: أحكم.

480) كدَح: سعي بجهد وتعب.

481) سنّة نبيّكم: ما صدر منه‏ صلى الله عليه وآله وسلم من قول وفعل.              

482) تذري: تسيل.

483) ذَهَله:نسيه وغفل عنه.

484) في البحار: وتوبة.           

485) النزوع: الكفّ عن الشي‏ء.

486) قبل هرمه: بلوغه أقصى الكبر.

487) في البحار: وحياته قبل ]موته، قبل[ يهن ويهرم، ويمرض ويسقم.

488) يملّه: يضجر منه.  

489) الموعوك: المحموم، الحمّى اشتدّت عليه.

490) المنهوك: المهزول الشديد.  

491) نَزَع: أشرف على الموت.

492) شخص بصره: فتح عينيه ولم يطرف بهما متأمّلاً أو منزعجاً.

493) طمح نظره: ارتفع ببصره.  

494) رشح: عرق.  

495) عطف: مال وانحنى، وفي البحار: خُطفت، أي: ضَمُرت.

496) عرينه: أنفه.

497) حنينه: صوته.

498) عرسه: زوجته.           

499) في البحار: حضر.

500) رمسه: قبره.

501) جمعُه: ماجمعه من مال وعقار.

502) نَشِفَ: جفّ.

503) سَجَّى الميّت: غطّاه.

504) الذقن: مجتمع اللحيين من أسفلهما.  

505) و506) من البحار.

507) منجّدة: مزيّنة.

508) ملحود: محفور، اللَحْد: الشقّ يكون في جانب القبر للميّت.

509) مرصود: مراقب.

510) منضود: ضمّ بعضه إلى بعض.

511) بجلمود: بصخر.  

512) في البحار: عفره.

513) في بعض المصادر: حُثِيَ أي: صبّ عليه.

514) في سائر المصادر: حَذَره أي: تحرّزه.

515) قفر: مكان خلا من الناس والماء والكلأ، وفي البحار: رهين حشر.

516) يسعى بجسمه: يمشي ويعدو على جسمه، وفي البحار: يدبّ في جسمه.

517) صديده: القيح المختلط بدمه.  

518) برمّته: بجملة.

519) في البحار: وتسحق تربته لحمه، وفي المصباح: يُسحق ثوبه ولحمه، وفي بعض المصادر:يسحق تربة لحمه.

520) يَرِمُّ: بُلي.  

521) في البحار: فينشره، وفي المصباح: فيُنشَر.

522) في البحار وبعض المصادر: لحشر.  

523) بعثرت قبور: انتثرت ونبشت.

524) الفصل: القضاء بين الحقّ والباطل.

525) في المصباح: تُضنيه، أي تهزله وتضعفه.

526) من المصباح وبعض المصادر، وليس في الأصل.

527) في البحار: مهيل.

528) في البحار: يخفره، وفي المصباح: يحفزه، أي يشتدّ به.

529) من البحار: وفي الأصل: نشر صحيفته.

530) من البحار، وليس في الأصل.  

531) في البحار: يسحب.  

532) في البحار: بكره شديد.

533) مصير: تحوّل من حالة إلى اُخرى.  

534) زُحْزح: تباعد.  

535) في الأصل: في جنّة بعزّته.

536) حفدة: جمع حافد، الأعوان والخدم.

537) كؤوس: جمع كأس، وهو إناء بما فيه من الشراب.

538) في البحار: مختوم.

539) في البحار وفي بعض المصادر: عنبر.  

540) في المصباح: للحبور.

541) مغدق: مخصب.  

542) في البحار: من عصى مُنشئه.  

543) في البحار: معصية مبدئه.  

544) قول فصل: حقّ ليس بباطل.  

545) خبر، خ.      

546) إلى هنا في البحار: 342/77 ح 28.

547) المناقب: 48/2، الخرائج: 740/2 ح 56، الصراط المستقيم: 222/1، ورواها الكنجي ‏الشافعي في كفاية الطالب: 393، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 140/19 والفيروزآبادي في فضائل الخمسة: 256/2، والكفعمي في المصباح: 968، والسيّد ميرجهاني‏ رحمه الله في مصباح البلاغة: 28/1.