الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
كرامة المرحوم الشيخ الأنصاري

كرامة المرحوم الشيخ الأنصاري

ونأتي هنا بنموذج لأحد الكرامات التي حدثت مع كبار علماء الطائفة، وهو المرحوم الشيخ الأنصاري، وينقلها العالم الجليل المرحوم الشيخ عبدالرحيم ‏الدزفولي الذي شاهدها بنفسه ونقلها إلى الآخرين:

ممّا حدث به الشيخ الجليل العلاّمة المتبحّر الشيخ عبدالرحيم التستري‏ المتوفّى سنة 1313 هجريّة من تلامذة الشيخ الأنصاري أعلى اللَّه مقامه، قال: زرت‏ الإمام الشهيد أباعبداللَّه الحسين‏ عليه السلام ثمّ قصدت أبا الفضل العبّاس‏ عليه السلام وبينما أنا في الحرم الأقدس إذ رأيت زائراً من الأعراب ومعه غلام مشلول وربطه‏ بالشبّاك وتوسّل به وتضرّع، وإذا بالغلام قد نهض وليس به علة، وهو يصيح: شافاني العباس ‏عليه السلام، فاجتمع الناس عليه وخرقوا ثيابه للتبرّك بها، فلمّا أبصرت ‏هذا بعيني تقدّمت نحو الشباك وعاتبته عتاباً شديداً وقلت: يغتنم المعيدي ‏الجاهل منك المنى وينكفئ مسروراً، وأنا مع ما أحمله من العلم والمعرفة فيك ‏والتأدّب في المثول أمامك أرجع خائباً لاتقضي حاجتي، فلا أزورك بعد هذا أبداً، ثمّ راجعت نفسي وتنبّهت لعتبي هذا فاستغفرت ربي سبحانه وتعالى ممّا أسأت لمقام العبّاس‏ عليه السلام، ولمّا عدت إلى النجف الأشرف أتاني الشيخ مرتضى‏ الأنصاري قدّس اللَّه روحه الزاكية وأخرج صرتين وقال: هذا ما طلبته من أبي الفضل ‏العبّاس، اشترِ داراً وحجّ البيت الحرام، وقد كان لأجلهما توسّلي بأبي الفضل‏ العباس‏ عليه السلام.(227)

وقد نظم الشيخ محمّد السماويّ صاحب كتاب «إبصار العين في أنصار الحسين‏ عليه السلام» أبياتاً في عرض هذه الكرامة، حيث يقول:

وما عَجِبتُ من أبي الفضلِ كما

عجبتُ مِن أستاذنا إذ عَلِما

لأنّ شبلَ المرتضى لم يَغرُبِ

إذا أتى بمُعجِزٍ أو مُعجِبِ

بكلِّ يوم بل بكلِّ ساعة

لِمَن أتاه قاصداً رِباعَه

وهو من الشيخ عجيبٌ بيّنُ

لكنْ بنورِ اللَّه يرنو المؤمنُ

وهذه هي واحدة من الكرامة للشيخ تمّ نقلها بواسطة العالم الجليل الشيخ‏ عبدالرحيم، وقد حدثت العديد من الكرامات الأخرى لهذا الشيخ وسائر الشخصيات الشيعيّة العلميّة والمعنويّة الكبيرة، حيث يمكن أن نتستنتج منها:

إنّ أولياء اللَّه تعالى ونتيجة الكتمان ووجود القابليّة والقدرة على الحفاظ على‏ الأسرار فإنّهم قادرون ليس على القيام بما أوكل لهم من مهمام من مولانا صاحب العصر والزمان عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف وإنجازها بالشكل المطلوب ‏فحسب، بل إنّهم يتمكّنون وبواسطة الفيوضات والألطاف النازلة عليهم من‏جانب أصحاب الولاية الإلهيّة من الإرتباط ببقيّة أهل البيت ‏عليهم السلام وتنفيذ أوامرهم‏ وتوجيهاتهم وإرشاداتهم ويسعون بما اُوتوا من قوّة على كتمانها.

ولا شك فإنّ هؤلاء الأخيار قد فتحوا الباب على مصرعيه للإتصال مع آل اللَّه ‏بعد أن انقطعوا من أعماق وجودهم عن الأغيار؛ لأنّ «الفصل» مقدّمة «للوصل» و«الوصل» يحدث نتيجة «الفصل».

ومن هنا فإنّ عمليّة الإتصال والإرتباط التي تكون مابين أصحاب الأسرار والأشعة الوهاجة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام هي حقيقة واقعة، مع أنّ هؤلاء يسعون‏ كثيراً لأجل كتمانها وإنكارها جملة وتفصيلاً.

ولا شكّ أنّ الكثير من القصص والأحداث التي نُقلت عن العلماء الأجلاء تثبت بشكل يقيني أنّهم أرادوا عدم اطلاع أحد من الخلق عليها، وبالطبع فإنّ ‏القصّة التي ذكرناها عن الشيخ الأنصاري توضح حقيقة، وهي أنّ سائر أهل‏البيت‏ عليهم السلام يقومون أحياناً بتكليف أولياء اللَّه تعالى القيام ببعض المهام والأعمال،وهؤلاء بدورهم يخفونها ولكن يقوم البعض بالإعلان عنها.

ونذكر هنا كرامة أخرى للشيخ الأنصاري تكون دليلاً على إثبات هذه‏ الحقيقة:

جاء رجل إلى الشيخ الأنصاري ‏رحمه الله في أحد أسفاره إلى زيارة مرقد سيدالشهداء عليه السلام وهو من أهالي منطقة السماوة(228) فسلّم عليه وقبّله يده ثمّ قال له: باللَّه ‏عليك أنت الشيخ مرتضى؟ فردّ عليه الشيخ: نعم، فاستطرد الرجل قائلاً: إنّي‏ من منطقة السماوة وعندي أخت تبعد عن بيتي حوالي ثلاثة فراسخ، فأردت‏ يوماً زيارتها، وبينما أنا راجع من زيارتها، وإذا بأسد كبير يعترض طريقي، وحينما شاهد الحصان ذلك توقف عن الحركة، ولم يكن عندي حلّ إلاّ التوسّل بأهل الدين، فأخذت أتوسّل بأبي بكر وقلت: يا صديق! فلم يحدث ‏شي‏ء، وتوسّلت بعده بعمر وقلت: يا فاروق! أيضاً لم أجد استجابة، ومن ثمّ ‏توسّلت بعثمان وقلت: يا ذا النور! كذلك لم أر أثراً، فتوسّلت بعليّ بن أبي‏ طالب عليه السلام وقلت: «يا أخا الرسول وزوج البتول؛ يا أبا السبطين أدركني ‏ولاتهلكني»، فجأة جاء راكب ملثم، وحينما شاهد الأسد ذلك الراكب أخذ يمسح رأسه بحصانه، ثمّ اتجه صوب الصحراء، فلمّا أراد الراكب الذهاب‏ لحقت به، ولكن على الرغم من أنّ حصانه كان يمشي ببطء ولكن حصاني مع ‏سرعته لم يتمكّن من الإلحاق به، وبينما أنا كذلك قال لي: إنّ الأسد قد ذهب‏ ولن يعترضك بعد ذلك، ووصف لي الطريق وقال: إذهب من هنا في أمان اللَّه.

فقلت له: فداك نفسي؛ من أنت الذي أنجيتني من الهلاك حتّى أعرفك؟ فقال: أنت الذي طلبتني، أنا أخو الرسول وزوج البتول، وأبو السبطين عليّ بن ‏أبي طالب.

فقلت له: فداك نفسي؛ إهدني إلى الصراط المستقيم، فقال: صحّح عقائدك. فقلت: ما هي العقائد الصحيحة؟ فأجابني عقائد الشيعة، فقلت: هل علّمتني ‏إيّاها، فردّ عليّ: إذهب إلى الشيخ مرتضى وتعلم منه ذلك، فقلت : لا أعرفه، فقال: إنّه ساكن في النجف وأعطاني بعض الأوصاف التي أشاهدها فيك.

فقلت: إن ذهبت إلى النجف أجده؟ فقال: لا؛ لأنّه ذهب إلى كربلاء لزيارة الحسين‏ عليه السلام ولكنّك ستجده فيها، قال لي هذا الكلام، ثمّ غاب عن بصري.

بعد ذلك ذهبت إلى السماوة، ثمّ جئت إلى النجف، فلم أجدك ووصلت إلى‏كربلاء هذا اليوم، وها أنا بخدمتك، وأرجو منك توضيح عقائد الشيعة، فردّ عليّ الشيخ قائلاً: إنّ أصل عقيدة الشيعة هي أن تعتقد وتؤمن بأنّ أميرالمؤمنين ‏عليّ بن أبي طالب‏ عليه السلام هو الخليفة الأوّل من بعد رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثمّ يأتي من ‏بعده ابنه الإمام الحسن‏ عليه السلام ومن بعده الإمام الحسين ‏عليه السلام صاحب هذا الضريح‏ الطاهر، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر الذي هو الإمام صاحب العصر والزمان ‏عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف، وهو إمام غائب عن الأنظار، وأنّ كلّ من يقرّ بإمامة هؤلاء الأبرار فهو شيعي، وإمّا في الأعمال فإنّ التكليف الذي هو واجب عليك هو الصلاة والصوم والحجّ وغيرها.

فقلت له: شيخنا أرجو منك أن تعرف لي شخصاً من الشيعة لكي يعلّمني‏ بعض ضروريات الأحكام، وبالفعل فقد أوصى بي إلى أحد العلماء وقال له: عليك بإخفاء الاُمور التي تنافي التقية.(229)

أجود بمكنون التلاد وإنّني

بسرّي عمّن سألني لضنين

وإن ضيّع الأقوام سرّي فإنّني

كتوم لأسرار العشير أمين

ومن الطبيعي أنّ عمليّة كتمان الكرامات وحفظ الأسرار له فوائد من جملتها أنّها بالإضافة إلى أنّها وسيلة وطريقة للحفاظ عليهم من بطش الأعداء والنواصب، فهي تزيد من قابليتهم وإستيعابهم للوصول إلى أسرار أعظم من‏تلك.

وكانت توصيات وإرشادات وتعاليم أهل بيت الوحي والرسالة عليهم السلام في‏ أهمية الحفاظ على الأسرار نابعة من كونها وسيلة لخير الدنيا والآخرة وفلاح ‏الإنسان.

عن أميرالمؤمنين علي‏ عليه السلام أنّه قال :

جُمِعَ خَيْرُ الدُّنْيا وَالْاخِرَةِ في كِتْمانِ السِّرِ وَمُصادَقَةِ الْإِخْوانِ، وَجُمِعَ الشَّرُّ في الْإِذاعَةِ وَمُؤاخاةِ الْأَشْرارِ.(230)

وقد عمل كبار علمائنا على إخفاء الأسرار والسعي في عدم البوح بها، فكان ‏هذا الموضوع سبباً في حفظهم من الأعداء، وكذلك جعلهم يمتلكون قابلية كبيرة تؤهلهم لحمل ما هو أعظم منها ودركها بصورة أكبر، والعمل بكلّ ‏مفرداتها من دون أن يعلم بها أحد من العالمين، وقد زاد عملهم بإخفائها الكرامات التي لازمتهم في حياتهم من قدراتها الروحية والمعنوية.


227) حياة وشخصيّة الشيخ الأنصاري: 92.

228) وهي مدينة تقع بين الكوفة والبصرة إلى جانب نهر الفرات.

229) حياة وشخصيّة الشيخ الأنصاري: 96.

230) سفينة البحار: 469/2.

 

 

 

 

 

    زيارة : 3836
    اليوم : 99539
    الامس : 132487
    مجموع الکل للزائرین : 136997697
    مجموع الکل للزائرین : 94351195