الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
الإستفادة حتى من اللحظات الأخيرة للعمر

   الإستفادة حتى من اللحظات الأخيرة للعمر

لابدّ للإنسان من أن يستفيد حتى من آخر لحظة من عمره والقيام بالوظيفة التي أُوكلت إليه وعدم تضييعه بالاُمور التي‏ لاترضي البارئ عزّ وجلّ وتوجب سخطه وغضبه.

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

إِنَّ أَنْفاسَكَ أَجْزاءُ عُمْرِكَ، فَلاتُفْنِها إِلاَّ في طاعَةٍ تُزْلِفُكَ.(83)

إنّنا عندما نتابع سيرة حياة علمائنا الأعلام نرى أنّهم استفادوا من الفرص حتى في آخر لحظة من لحظات حياتهم بأفضل‏ وجه ولم يفرطوا بها، ومن هؤلاء الأبرار آية اللَّه العظمى الحاج السيد محمد حجت، الذي يعتبر من الشخصيات التي‏حفرت أخدوداً في صفحات التاريخ المشرق للشيعة.

يكتب المرحوم آية الله  العظمى الحاج الشيخ مرتضى الحائري حول هذه الشخصية الجليلة: لقد كان آية الله العظمى‏ الحاج سید محمد حجت في زمن آية الله العظمى الروجردي‏ رحمه الله مرجعاً مطلقاً أو مرجعاً لأكثر أهالي منطقة آذربيجان، حيث كان‏يرجع إليه أهالي آذربيجان المقيمون في طهران وسائر الناس الآخرين.

وفي أوائل الشتاء الذي رحل فيه كان مشغولاً بإجراء بعض التعميرات والتصليحات في بيته، حيث تم تهديم قسم من‏ البناء القديم وإحداث قسم جديد آخر فيه، وكان في ناحية اُخرى من البيت عمال يعملون في إنشاء بعض الاُمور الضرورية منها حفر بئر وتغطيته بالحجر وكان القائم بهذه التعميرات هو أحد طلبته.

فقال: جئنا إليه في أحد الأيام صباحاً فوجدناه جالساً على سريره وكان وضعه الصحي عاديّاً حيث إنّه كان يعاني من هذا الوقت من السنّة بضيق حاد في التنفس، ولكن يبدو أن حالته طبيعية فعلمنا أنّ سماحته قد رفض إدخال العمال إلى البيت،فقلنا له: لماذا رفضت ادخالهم؟

فقال بجزم وصراحة: إنّي في حالة موت فما جدوى البناء؟ فلم أقل شيئاً.

فذهبت في يوم آخر إليه وكل ظني أنّه يوم الأربعاء فكان الحاج السيد أحمد الزنجاني جالساً مقابله فأعطى جميع ‏الأوراق وأسناد الملكية وغيرها إلى السيد وأعطاني الأموال التي كانت في الصندوق حتى أصرفها في الموارد المعينة وقدخص لي سهماً منها.

وكان سماحته قد كتبه وصيته قبل مدة على شكل عدّة نسخ، وكانت واحدة منها قد أرسلها إليّ وهي الآن في حوزتي،وكان قد أوصى فيها بأنّ الأموال الموجودة عند وكلائه هي سهم الإمام وأنّ الأرض التي أصبحت فيما بعد الجزء الأعظم من‏ مسجد المرحوم البروجردي والتي كان قد اشتراه لتكون باسمه أوصى بأن تبنى فيها مدرسة علمية، وقد كتب في وصيته ‏أنّها هي أيضاً من سهم الإمام عليه السلام ولايمكن توريثها، وأمّا إذا أرادها آية اللَّه العظمى البروجردي لبناء مسجد فلامانع من‏ إعطائها له.

على أيّ حال فقد كانت أمواله كلها محصورة في هذا الصندوق، وكان في هذه الفترة لايقبل استلام الأموال الشرعية من‏ أيّ شخص كان.

وحينما أعطاني الأموال التي كانت في الصندوق لكي أوصلها إلى مستحقيها رفع يديه إلى السماء وقال: إلهي لقد عملت‏ بالتكليف فقرب أجلي.

فابتسمت بوجهه وقلت له: شيخي الجليل ليس هناك دواعٍ للخوف حيث إنّ هذه الحالة متجذرة عندك وهي تنتابك في‏ كلّ سنّة، ثمّ تعود حالتك العادية كما هي، فقال: لا فإنّ مماتي اليوم ظهراً فلم أقل له شيئاً فخرجت مسرعاً لانجاز ما قاله لي ‏في توزيع المال مخافة أن يتوفى ظهر هذا اليوم وتتحقق نبوته ولم يتعين مصير هذه الأموال فهل أعطيها للورثة أم ماذا؟ وبينما أخذت الشكوك تساورني ذهبت وقمت بإنجاز مهمتي قبل الظهر.

ولم يتوفّى سماحته في ظهر ذلك اليوم إذ أنّه التحق ببارئه في يوم السبت ظهراً أي بعد ثلاثة أيام، وعندما وصلت إلى ‏بيته كان الأذان يرفع من المدرسة الحجتية.

وقد قيل لي في إحدى تلك الليالي إقرأ عليه القرآن فعندما فتحته واجهتني في بداية الصفحة الآية الشريفة «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ»(84) فاجهش سماحته بالبكاء من هول تلك الآية.

وكانت عينه في أحد الأيّام التي قربت فيها منيته تنظر إلى الباب كأنّه يشاهد شيئاً بالخصوص، فكان يقول في تلك ‏اللحظات: تفضل يا مولاي؛  يا أميرالمؤمنين علي، ولكن لم يمض وقت حتى يعود إلى وضعه الطبيعي وكان في أيّامه ‏الأخيرة مشغولاً كثيراً بالدعاء والعبادة والتهجد.

وفي يوم وفاته ذهبت وبعد إتمام درس المكاسب في البيت إلى الغرفة الصغيرة التي كان يرقد فيها وكانت في ذلك‏ الوقت ابنته متواجدة والتي هي زوجتي، وكان وجهه باتجاه الجدار وهو مشغول بالذكر والتوسل فقالت لي: إنّ حال أبي‏ مضطربة ولعل دليل ذلك هو الدعاء والذكر الكثير.

فدخلت إلى الغرفة وسلمت عليه، فردّ سماحته السلام فقال: اليوم أيّ الأيام؟ قلت: السبت، فقال: هل ذهب سماحة البروجردي إلى الدرس؟ قلت: نعم، فقال: من صميم قلبه ولعدّة مرات: الحمد للَّه.

فقالت ابنته: أعطيه مقداراً من تربة الحسين عليه السلام فقلت: حاضر، فأحضرتها فقلت له: هل ترغب في ذلك؟ فجلس‏ وأحضرت له القدح الذي فيه التربة، فتصور أنّه طعام أو دواء، فبدت علائم عدم الإرتياح عليه وقال: ما هذا؟ قلت: تربة الإمام الحسين عليه السلام فتفتحت أساريره، فشرب الماء المخلوط بالتربة إلى نهايته، وبعدها قال كلمة سمعتها منه بوضوح إذقال: «آخر زادي من الدنيا تربة الحسين» ثم أخذته غفوة.

وقرأت عليه دعاء العديلة للمرة الثانية حسب طلبه، وكان ابنه الثاني السيد حسن يساعده في الجلوس صوب القبلة حيث بدأ سماحته يبرز عقائده باللغة الفارسية والتركية إلى البارئ عزّ وجلّ بقلب منكسر وتضرع شديد، وكان يقرّ بخلافة أميرالمؤمنين علي عليه السلام ويتلوا الآية الشريفة التي تدل على عظمة ومكانة الأئمة الأطهار عليهم السلام:

«مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيَّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُهْا فِي السَّماءِ»(85).

وأمّا أنا فكنت واقفاً جانباً أنظر إلى هذا المشهد المعنوي وكلي تعجب، وكان يخطر ببالي أن أقول له: أرجو منك الدعاء لي ولكن الخجل يمنعني؛ لأنّه أوّلاً كان مشغولاً بحاله ولم يلتفت إلى شي‏ء آخر، باعتباره يشاهد نفسه أمام الله تعالى وكان ‏يقوم بوظائفه المعنوية قبل الموت فقط، ثانياً: إنّ هذا الطلب يشعره بأنّنا علمنا بحلول أجله وسلمنا بذلك.

على أيّ حال كان كلّ من في الغرفة من ابنه وابنته وأنا وسائر عائلته واقفين نستمع إلى ما يقول، وقد كان يقول: إنّ ‏عقائدي كلها بين يديك أسلمها إليك فأرجعها لي.

وبينما هو على هذه الحال إذ به يجلس ويتكئ على الوسادة وجسده أمام القبلة، فجاة انقطع نفسه فتصور الحضور أن‏ قلبه توقف عن العمل فوضعوا قطرة من الكرامين في فمه فخرج الدواء من أطراف شفتيه وفي تلك اللحظة توفي ولم‏ تدخل حتى قطرة واحدة من الدواء إلى جهازه الهضمي من بعد التربة الحسينية.

فعلمت أنه قد توفي، جئت إلى ساحة المنزل فسمعت الأذان من المدرسة الحجتية وكان موته مقارناً لوقت الظهر الشرعي، حيث تنبأ بأنّ وفاته ستحدث في يوم الأربعاء ظهراً.

وكان هذا الرجل قد عبدّ الطريق لسفره وحصلّ زاده فقسم الوجوهات الشرعية ولم يترك شيئاً لورثته.

وتشمل هذه القصة بالإضافة إلى الجوانب الإيمانية على بعض الآيات الغيبية منها:

1 - إخباره بوقوع موته ظهراً وهذا ماتحقق بالفعل.

2 - المكاشفة التي حدثت معه، حيث رآى فيها الإمام أميرالمؤمنين علي‏ عليه السلام.

3 - إخباره بأنّ آخر شي‏ء يتناوله من الدنيا هو التربة الحسنية وهكذا حصل.(86)

إنّ المرحوم آية اللَّه العظمى حجت هو مصداق جلّي وواضح لقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

«إِنَّ أَنْفاسَكَ أَجْزاءُ عُمْرِكَ ‏فَلاتُفْنِها إِلاَّ في طاعَةٍ تُزْلِفُكْ».(87)

وفي هذا السياق نقول: إنّ من يقرأ سيرة عظماء الشيعة ورجالات هذا المذهب الحق ويأخذ العبر والدروس منها ويكون في مقام العبودية إلى أخر نفس من حياته، تراه في الآخرة يتنعم بالألطاف الإلهية وتشمله رحمة أهل البيت ‏عليهم السلام، فبذلك يكون من الفائزين ومكانه في أعلى عليّين.


83) شرح غرر الحكم: 499/2.

84) الرعد: 14.

85) إبراهيم: 24.

86) من المؤلفات المخطوطة للأستاذ الأعظم المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ مرتضى الحائري رضوان الله عليه.

87) تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم.

 

 

 

 

 

 

 

    زيارة : 2762
    اليوم : 14886
    الامس : 92721
    مجموع الکل للزائرین : 131501100
    مجموع الکل للزائرین : 91171991