الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
1 - الإمام الرّضا عليه السلام وإقامة البرهان والدّليل

1 - الإمام الرّضا عليه السلام وإقامة البرهان والدّليل

  عندما نستقرئ التّاريخ، نرى أنّ واحد من البرامج العلميّة الّتي كان يقوم بها الإمام الرّضا عليه السلام طيلة فترة إمامته المباركة، هي إقامة المناظرات والبحوث العلميّة والإتيان بالدّليل القاطع والبرهان السّاطع في إثبات وجود البارئ عزّ وجلّ، وحقّانيّة الدّين الإسلامي الحنيف ومذهب أهل البيت‏ عليهم السلام.

  وكان الإمام صلوات اللَّه عليه يقيم مجالس المناظرات والمحاججات مع كبار علماء الأديان والمذهب الأخرى . وكان عليه السلام يناظر كلّ واحد منهم بلسانه ، ولايستعين بمترجم لنقل كلامه المتين ، ويتمكّن الإمام‏ عليه السلام وبواسطة الأدلّة الّتي يأتي بها من زعزعة عقائدهم الخاوية المبنيّة على أساس آرائهم الفكريّة والعقائديّة الجوفاء.

  وقد كانت هذه المناظرات تجري بمسمع ومرأى الكثيرين ، فلذا كانت تترك آثاراً وتبعات مهمّة ، وتفيد في إثبات أحقّيّة المذهب الشيعي.

  وينقل لنا التاريخ شواهد عديدة من مناظرات الإمام الرّضا عليه السلام مع كبار علماء الأديان والمذاهب ، واعترافهم بالهزيمة والخذلان ، ونأتي نحن باُنموذج من ذلك:

  ينقل محمّد بن فضل الهاشمي رواية طويلة وجميلة في هذا الخصوص ، نأتي ببعض منها :

  روي عن محمّد بن الفضل الهاشمي قال : لمّا توفّي موسى بن جعفر عليهما السلام أتيت المدينة ، فدخلت على الإمام الرّضا عليه السلام ، فسلّمت عليه بالأمر ، وأوصلت إليه ما كان معي ، وقلت : إنّي سائر إلى البصرة ، وعرفت كثرة خلاف النّاس وقد نعي إليهم موسى‏ عليه السلام ، وأشكّ أنّهم سيسألوني عن براهين الإمام ، ولو أريتني شيئاً من ذلك .

  فقال الإمام الرّضا عليه السلام : لم يخف علي هذا ، فأبلغ أولياءنا بالبصرة وغيرها إنّي قادم عليهم ولا قوّة إلاّ باللَّه .

  ثمّ أخرج إلى جميع ما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الأئمّة عليهم السلام من بردته وقضيبه وسلاحه وغير ذلك ، فقلت : ومتى تقدّم عليهم .

  قال عليه السلام : بعد ثلاثة أيّام من وصولك ودخولك البصرة .

  فلمّا قدّمتها ، سألوني عن الحال ، فقلت لهم : إنّي أتيت موسى بن جعفر عليهما السلام قبل وفاته بيوم واحد ، فقال عليه السلام :

 إنّي ميّت لا محالة، فإذا واريتني في لحدي فلاتقيمنّ، وتوجّه إلى المدينة بودائعي هذه ، وأوصلها إلى ابني عليّ بن موسى ، فهو وصيّي وصاحب الأمر من بعدي .

  ففعلت ما أمرني به ، وأوصلت الودائع إليه ، وهو يوافيكم إلى ثلاثة أيّام من يومي هذا ، فاسألوه عمّا شئتم .

  فابتدر الكلام عمرو بن هذاب عن القوم - وكان ناصبياً ينحو نحو التزيّد والإعتزال - فقال : يا محمّد ؛ إن الحسن بن محمّد رجل من أفاضل أهل هذا البيت في ورعه وزهده وعلمه وسنّه ، وليس هو كشابّ مثل عليّ بن موسى ، ولعلّه لو سئل عن شي‏ء من معضلات الأحكام لحار في ذلك .

  فقال الحسن بن محمّد - وكان حاضراً في المجلس - : لاتقل يا عمرو ذلك ؛ فإنّ عليّاً على ما وصف من الفضل ، وهذا محمّد بن الفضل يقول : إنّه يقدّم إلى ثلاثة أيّام ، فكفاك به دليلاً ، وتفرّقوا .

  فلمّا كان في اليوم الثّالث من دخولي البصرة ، إذاً الرّضا عليه السلام قد وافى ، فقصد منزل الحسن بن محمّد داخلاً له داره ، وقام بين يديه يتصرّف بين أمره ونهيه ، فقال عليه السلام : يا حسن بن محمّد ؛ أحضر جميع القوم الّذين حضروا عند محمّد بن الفضل وغيرهم من شيعتنا ، وأحضر جاثليق النّصاري ورأس الجالوت ، ومر القوم يسألوا عمّا بدا لهم .

فجمعهم كلّهم والزيديّة والمعتزلة ، وهم لايعلمون لما يدعوهم الحسن بن محمّد .

فلمّا تكاملوا ثُنّي للرّضا عليه السلام وسادة ، فجلس عليها ، ثمّ قال عليه السلام : السّلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ، هل تدرون لِمَ بدأتكم بالسّلام ؟

 قالوا : لا .

 قال عليه السلام : لتطمئنّ أنفسكم .

 قالوا : من أنت ؛ يرحمك اللَّه ؟

 قال عليه السلام : أنا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، وابن رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم ، صلّيت اليوم صلاة الفجر في مسجد رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم مع والي المدينة ، وأقرأني بعد أن صلّينا كتاب صاحبه إليه ، واستشارني في كثير من أموره ، فأشرت عليه بما فيه الحظّ له ، ووعدته أن يصير إليّ بالعشيّ بعد العصر من هذا اليوم ، ليكتب عندي جواب كتاب صاحبه ، وأنا واف له بما وعدته ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللَّه .

  فقالت الجماعة : يابن رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ما نريد مع هذا الدليل برهاناً ، وأنت عندنا الصّادق القول ، وقاموا لينصرفوا .

  فقال لهم الرّضا عليه السلام : لاتتفرّقوا ، فإنّي إنّما جمعتكم لتسألوا عمّا شئتم من آثار النّبوّة وعلامات الإمامة الّتي لاتجدونها إلاّ عندنا أهل البيت ، فهلمّوا مسائلكم .

  فابتدأ عمرو بن هدّاب فقال : إنّ محمّد بن الفضل الهاشمي ذكر عنك أشياء لاتقبلها القلوب .

  فقال الرّضاعليه السلام : وما تلك ؟

  قال : أخبرنا عنك أنّك تعرف كلّ ما أنزله اللَّه ، وأنّك تعرف كلّ لسان ولغة .

  فقال الرّضاعليه السلام: صدق محمّد بن الفضل ، فأنا أخبرته بذلك ، فهلمّوا فسألوا .

  قال : فإنّا نختبرك قبل كلّ شي‏ء بالألسن واللّغات ، وهذا روميّ ، وهذا هنديّ ، وفارسيّ وتركي فأحضرناهم .

  فقال‏ عليه السلام : فليتكلّموا بما أحبّوا ، أجِبْ كلّ واحد منهم بلسانه إن شاء اللَّه .

  فسأل كلّ واحد منهم مسألة بلسانه ولغته ، فأجابهم عمّا سألوا بألسنتهم ولغاتهم ، فتحيّر النّاس ، وتعجّبوا ، وأقرّوا جميعاً بأنّه أفصح منهم بلغاتهم .

  ثمّ نظر الرّضا عليه السلام إلى ابن هدّاب فقال :

 إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلى في هذه الأيّام بدم ذي رحم لك ، كنت مصدّقاً لي ؟

 قال : لا ؛ فإنّ الغيب لايعلمه إلاّ اللَّه تعالى .

 قال‏ عليه السلام : أوليس اللَّه يقول : «عالِمُ الْغَيْبِ فَلايُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ»(1) ، فرسول اللَّه عند اللَّه مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرّسول الّذي أطلعه اللَّه على ما يشاء من غيبه ، فعلّمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة .

 وإنّ الّذي أخبرتك به - يابن هدّاب - لكائن إلى خمسة أيّام ؛ فإن لم يصحّ ما قلت في هذه المدّة ، فإنّي كذّاب مفتر ؛ وإن صحّ فتعلّم أنّك الرّادّ على اللَّه ورسوله ، وذلك دلالة اُخرى .

 أما ؛ إنّك ستصاب ببصرك ، وتصير مكفوفاً فلاتبصر سهلاً ولا جبلاً ، وهذا كائن بعد أيّام .

 ولك عندي دلالة اُخرى : إنّك ستحلف يمناً كاذبة ، فتضرب بالبرص .

  قال محمّد بن الفضل : تاللَّه ؛ لقد نزل ذلك كلّه بابن هدّاب .

  ومن ثمّ تحاجى مع كبار علماء اليهود والنصارى وآخرين كلٌّ بلغته وكلامه ، وأثبت رسالة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم من كتبهم ، فأقرّ الجميع بصحّة كلام الإمام عليه السلام .

  فقال رأس الجالوت : واللَّه يابن محمّد ؛ لولا الرئاسة الّتي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد ، واتّبعت أمرك .

  فلم يزل الرّضا عليه السلام معهم في ذلك إلى وقت الزّوال ، فقال لهم حين حضر وقت الزوّال : أنا أصلّي وأصير إلى المدينة للوعد الّذي وعدت والي المدينة ليكتب جواب كتابه ، وأعود إليكم بُكرة إن شاء اللَّه .

  فلمّا كان من الغد عاد إلى مجلسه ذلك ، فأتوه بجارية روميّة فكلّمها بالرّوميّة .

  فقال الرّضا عليه السلام بالرّوميّة : أيّما أحبّ إليك ؛ محمّد أم عيسى ؟

  فقالت : كان فيما مضى عيسى أحب إليّ حين لم أكن عرفت محمّداً ، فأمّا بعد أن عرفت محمّداً ، فمحمّد الآن أحبّ إليّ من عيسى ومن كل نبيّ .

  فقال لها الجاثليق : فإذا كنت دخلت في دين محمّد فتبغضين عيسى ؟

  قالت : معاذ اللَّه ؛ بل أحبّ عيسى واُؤمن به ، ولكن محمّداً أحبّ إليّ .

  فقال الرّضا عليه السلام للجاثليق : فسّر للجماعة ما تكلّمت به الجارية ، وما قلت لها أنت ، وما أجابتك به .

  ففسّر لهم الجاثليق ذلك كلّه ، ثمّ قال الجاثليق : يابن محمّد ؛ هاهنا رجل سِندي وهو نصراني صاحب إحتجاج وكلام بالسّنديّة .

  فقال عليه السلام له : أحضرنيه ، فأحضره فتكلّم معه بالسّندية ، ثمّ أقبل يحاجّه وينقله من شي‏ء إلى شي‏ء بالسنديّة في النصرانيّة ، فسمعنا السندي يقول : تبطى تبطى تبسطلة .

  فقال الرضا عليه السلام : قد وحّد اللَّه بالسنديّة ، ثمّ كلّمه في عيسى وموسى فلم يزل يدرجه من حال إلى حال إلى أن قال بالسندية : أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه ، وأنّ محمّداً رسول اللَّه ، ثمّ رفع منطقة كانت عليه ، فظهر من تحتها زنّار في وسطه ، فقال : إقطعه أنت بيدك يابن رسول اللَّه ، فدعا الرّضا عليه السلام بسكّين فقطعه .

  فلمّا فرغ من مخاطبة القوم قال عليه السلام : قد صحّ عندكم صدق ما كان محمّد بن الفضل يلقي عليكم عنّي ؟

  قالوا : نعم ؛ واللَّه لقد بان لنا منك فوق ذلك أضعافاً مضاعفة ، وقد ذكر لنا محمّد بن الفضل أنّك تحمل إلى خراسان .

  فقال عليه السلام : صدق محمّد .

  قال محمّد بن الفضل : فشهد له الجماعة بالإمامة ، وتفرّقوا . وبات عندنا تلك الليلة .

  فلمّا أصبح ، ودّع الجماعة وأوصاني بما أراد ومضى وتبعته حتّى إذا صرنا في وسط القرية عدل عن الطريق فصلّى أربعة ركعات ، ثمّ قال : يا محمّد ؛ إنصرف في حفظ اللَّه ، غمّض طرفك ، فغمضته ثمّ قال عليه السلام : إفتح عينيك ، ففتحتهما فاذا أنا على باب منزلي بالبصرة ولم أرى الرضا عليه السلام قال وحملت السندي وعياله إلى المدينة في وقت الموسم .

  قال محمّد بن الفضل : كان فيما أوصاني به الرّضا عليه السلام في وقت منصرفه من البصرة أن قال لي : صِر إلى الكوفة فاجمع الشيعة هناك ، وأعلمهم أنّي قادم عليهم ، وأمرني أن أنزل في دار حفص بن عمير اليشكري.

  فعملت بما أمرني ، فجاء الإمام عليه السلام وأمر بأن يجتمع المسلمين والعلماء اليهود والنصارى فتكلّم الإمام عليه السلام معهم كلّ بحسب لسانه ، فأثبت حقّه وحقّ أجداده الكرام عليهم السلام ، ثمّ قال لجاثليق :

 يا جاثليق ؛ هل تعرف لعيسى صحيفة فيها خمسة أسماء يعلّقها في عنقه إذا كان بالمغرب ، فأراد المشرق فتحها فأقسم على اللَّه باسم واحد من خمسة الأسماء أن تنطوي له الأرض ، فيصير من المغرب إلى المشرق ، ومن المشرق إلى المغرب في لحظة .

  فقال الجاثليق : لا علم لي بها .

  قال الرضا عليه السلام : فاعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمّد إلاّ من قام به محمّد حين يفضي الأمر إليه ، ولايصلع للإمامة إلاّ من حاجّ الاُمم بالبراهين للإمامة.

  فقال رأس الجالوت : وما هذا الدليل على الإمامة ؟

قال عليه السلام:

أن يكون عالماً بالتّوراة والإنجيل والزّبور والقرآن الحكيم ، فيحاجّ أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل القرآن بقرآنهم .

 وأن يكون عالماً بجميع اللّغات حتّى لايخفى عليه لسان واحد ، فيحاج كلّ من كلّ عيب عادلاً منصفاً حكيماً رئوفاً رحيماً غفوراً عطوفاً صادقاً مشفقاً بارّاً أميناً مأموناً راتقاً فاتقاً .(2)


1) سورة الجنّ ، الآية 26 .

2) علم الغيب : 22 ، نقلاً عن بحار الأنوار : 73/49 .

 

 

    زيارة : 3461
    اليوم : 38284
    الامس : 76446
    مجموع الکل للزائرین : 129969651
    مجموع الکل للزائرین : 90164906